*جنوبيّ الهوى قلبي

1 Star2 Stars3 Stars4 Stars5 Stars (No Ratings Yet)
Loading...Loading...

1,335 views

لطالما كنت جنوبياً** ولم أعرف، حتى ذلك اليوم.

 

نهارٌ لا ينسى، ذلك النهار الذي حضرت فيه جوليا بطرس تغني الجنوب، بمقاومته وثورته وعنفوانه. لم يغمض لي جفنٌ، فكلماتها وموسيقاها ما زالت تلعب في مخيلتي.

ومع هذه الصور انطلقت رحلتي في النهار التالي. ركبنا السيارة وانطلقنا إلى مكانٍ لم تطأه قدمي منذ أكثر من ثلاث سنوات، وفي مخيلتي صور طفولةٍ قضيتها على تلك الأرض.

كنا نتسلق أشجار الخروب، ونقطف أشجار السرو لتكون ذخائر ألعابنا الحربية على أرضٍ لم تشهد سوى الحرب، حرب لم تكن لعبة. قطع حبل أفكاري مرةً ثانية صوتُ جوليا تغني الجنوب، فارتسمت على وجهي بسمةٌ تقول إن القدر يفهمك.

ضعنا في قرى جنوبنا، وأنا أتأمل كيف تحتضن الأشجار مسار النهر، في علاقة حبٍ أبدية. شاهدت النسيم يحمل أعباء القرى إلى مكانٍ بعد ليخفف عن هذه المنطقة.

أكملنا طريقنا و مع كل خطوةٍ على تراب هذه الأرض، انتميت أكثر، عشقت أكثر، شعرت أنني حي أكثر. أردت أن أكبر على هذه الأرض، أموت و أدفن فيها، فكل زاوية تحكي قصة، وكل شجرة شاهدة تاريخ مقاوم.

لعنت الدولة المهملة التي لم تهتم يوما بانماء قرى الجنوب وتطويرها حتى بعد تحريره في العام 2000، وغضبت من شعبٍ يجهل قدسية أرضه.

أكملنا الرحلة و وصلنا إلى منطقة الخيام حيث وقفنا على ما يبدو سنتيمترات قليلة من فلسطين، تلك الأرض التي كانت ولا تزل تملك جزءاً من قلبي، يكمله الجزء اللبناني. لم أفهم كيف لي أن أقف سنتيمترات قليلة من هذه الأرض ولا يسمح لي أن أدوسها، أو أمسك ترابها. كم تشبه الجنوب في وحدتها، فلسطين تلك، أرضٌ تخلت الأنظمة العربية عنها ومعها بعض الداخل الفلسطيني، وباعوها بثمنٍ رخيص ليحفظوا سلطانهم وثرواتهم.

صمتٌ عمّ الرحلة بينما انطلقنا صوب مكانٍ لطالما تجنبته، ولم أزره عن قصد: معتقل الخيام***. ولكن مشيئة القدر ومشيئتي أعادتاني الى تلك الساح، وبدأت أسمع أصواتاً تأتي من كل زاويةٍ وحجر موجود في هذا المزار: هنا علقوا المعتقلين وبسياط حديدية عذبوهم، هناك سجن النساء، حيث لا يمكنهن رؤية الشمس إلا 10 دقائق كل 30 يوم .

لا أعلم إن كانت فكرة سليمة أن اتفقد المكان لوحدي ولكنني فعلت. في كل زنزانة أسمع أصواتاً، أشعر بطاقات معذبة ولكن مقاومة. شعرت بأسلاك التعذيب الكهربائية على كل جسدي، ولم أعد أسمع سوى الأنين والصراخ، أصوات تعلو من الألم، وأصوات تعلو عليها فرحاً ونشوةً لرؤية أصحابها يتعذبون.

قطع صوت المرشد إنصهاري مع هذه الجدران، ومشينا سوية ليلفت انتباهي كونه أحد المعتقلين المحررين. أردت أن انحني إحتراماً أمام هذه القوة الروحية والعزم والعزة لديه كي يتمكن من الوقوف في مكان تعذيبه قوياً فخوراً ومنتصراً، وأردت أن اشتم كل من يدعي أنه لبناني من دون أن يدري أن من عذب هؤلاء المقاومين، كانوا عملاء يحملون الجنسية اللبنانية، فهل أشعر بالفخر أم بالخجل؟

هل أصرخ لأولئك المعتلين منابرهم، أن هذا الانسان الوقف أمامي وأمثاله هم المقاومون اللبنانيون حقاً لا أنتم؟

حملت أفكاري، غضبي، خيبتي، عشقي ومحبتي لهذه الأرض وعدت أدراجي إلى بيروت، إلى شوارع مزدحمة، إلى عالم لم أعد أنتمي إليه. فكل ما أراه أمامي هي تلك الحدود التي أريد اقتلاعها كي أركض الى حضن فلسطين، ومزاراً اقتربت عبره إلى ساحات وجنان وانطباعاتٍ قدسية.

*”جنوبي الهوى قلبي” قصيدة للشاعر السوري عمر الفرّا.

**جنوبياً: شخص ينتمي في نسبه الى احدى مناطق جنوب لبنان المتاخم لفلسطين المحتلة.

***معتقل الخيام أحد أشهر المعتقلات الاسرائيلية وأكثرها وحشية، حيث كان يحتجز مئات المقاومين والمقاومات. دمّرته غارة اسرائيلية في حرب تموز 2006، واليوم يعاد بناؤه للذكرى.

 

Leave a Reply