شهرزاد والتصوير المُباح

1 Star2 Stars3 Stars4 Stars5 Stars (2 votes, average: 4.50 out of 5)
Loading ... Loading ...

978 views

بقلم تاج العريس

في عام 1946 ترك هاشم المدني ابن السابعة عشر بيته في صيدا متوجهاً إلى مدينة عكا ثم الى حيفا، باحثا عن الرزق، فعمل مساعدا عند المصور الأرمني كاتس حيث اكتسب منه خبرة التصوير. بعد نكبة فلسطين عاد الى صيدا لبنان ليشتري بعد سنتين كاميرا “بوكس كودك” وليبدأ بتصوير الناس داخل منزله وفي الشوارع والأزقة. بعدها افتتح ستوديو “شهرزاد” الذي لا يزال قائما حتى اليوم، فجهّزه بعدة التصوير وبمجموعة جداريات تحمل مشاهد متنوعة وزوّده بتشكيلة من الملابس والفساتين والإكسسوارات والقبعات والأحذية، وسرعان ما ذاع صيت شهرزاد والمدني في صيدا والجوار وأمّه الكثيرون…

كان أكثر ما ميّز شهرزاد عن باقي استوديوهات التصوير الفوتوغرافي في منتصف القرن الماضي هو تحوُله الى دفيئة يلجأ اليها على ما يبدو وكما تُبيّن الصُور الكثيرة، كل من أراد الوقوف أمام الكاميرا على اختلافهم العمري والطبقي والجندري. هكذا ومن دون اكتراث اندفع الى طقس التصوير وجهاء المنطقة وعمّالها وأصحاب المهن والنساء والفتيات والفتيان والمحاربون وبناة الأجسام ومثليو الجنس، أفراداً وأزواجا… في شهرزاد الخيال وقف أولئك الذين خرجوا من خباء عيشهم ليقفوا أمام كاميرا المدني في ضروب مذهلة من الأداءات والعروض الجندرية قد يفوق ما تحمله اليوم الكثير من الأعمال الفنية.

التفرد والتنوع اذاً هي التيمات المركزية لصور المدني والتي قد نلاحظها سريعا اذا ما ألقينا نظرة على مخزون صوره*، وصور المدني تحتاج حتماً الى أن يُمثّل من يقف أمام الكاميرا وأن يظهر الظهور

الذي يريد ويرغب، فهناك ظهور المناضل والحالمة والزوج والرجولي والأم والمُحِب الرقيق … لقد أتاح شهرزاد لمن يرغب أن يؤدي عرضه دون حياء أو وجل، لأنه وأمام كاميرا المدني كان بالإمكان أن تكون أنت أو غيرك، أو أن تعيش حلماً أو تتمرد، فلربما ستظهر كما لا تظهر خارجاً. ولأن تبادل القبل بين ذوي الجنس الواحد كان لا يسبب حرجاً في شهرزاد فقد قوبل بالافتتان، حيث نرى في ارشيف صور المدني سلسلة كاملة من القبل كانت ولا تزال بمثابة “خروج عن القانون”، ولربما قوبل بالاشمئزاز خارج حدود شهرزاد. تساؤلات كهذه وأخرى تشغلني وأنا أمام صُور المدني: هل كان في تسمية الاستوديو بشهرزاد ايحاءاً ودعوة لاطلاق الخيال حين تتخطى قدمك عتبة الاستوديو؟ هل كان ما صنعه المدنيّ نوعاً من النقد للهوية الجنسيّة والجندريّة المحدّدة؟ هل كان ذلك استكشافا لدور الإداء/العرض (Performance)؟ أهو “كوير” مبكّر أراد أن يخالف الشرعيّ؟ هل أراد المدنيّ أن يجعل من مكانه حيزاً آمناً من التبعات الجزائية المجتمعية؟ مكاناً بامكانك أن ترتدي فيه ما لا يتناسب ثقافياً مع جنسك، وأن تتصرف وتتحرك في وضعيات كما تشاء وليس على النحو المطلوب؟

وربما قد تكون التساؤلات الأهمّ هي: ما الذي ميّز  المحيط الثقافي والجغرافي لشهرزاد ليسمح بهذه اللعبة غير المألوفة؟ وكيف لنا أن نفهم العلاقات التي ربطت المدنيّ بهذا المحيط؟ هل كانت صور المدنيّ مرآة للمجتمع؟ وأي حوار خفي أو علني كان بين المدنيّ والأشخاص الذين طلبوا او طُلب منهم استخدام لغة أجسادهم في شهرزاد؟ 

يقول المدنيّ، سيد البورتريه، في مقابلة تلفزيونية سُجلت له مؤخراً: “هذا النجاتيف فيه أسرار لأهل صيدا، اذا فرّطت فيه يمكن اللي ياخذو يروح يطبعو ويشوف الأسرار…”

فماذا يا ترى يخبئ لنا ارشيف شهرزاد وارشيفات الأستوديوهات الأخرى من اسرار تختفي في إطار صور، والتي حتماً ستسرد لنا الكثير مما غاب وغُيّب؟

وبعيدا أو قريبا من شهرزاد الخيال، من منّا لا يذكر السِحر الذي كان لاستوديوهات التصوير علينا وخاصة في صِغرنا قبل عصر الديجيتال؟ كيف كنّا نتحرك أمام الكاميرا حتى نتوصل للوضعية التي نرغب أن نظهر بها في صورة تُعرف بنا وقد ترافقنا مدى الحياة بل وقد تظل بعدنا…

يقول لي صديق وأعتقد بأنه محقّ، بأن الطريقة الأفضل للتيقّن من كَون الشخص مثليّا هي بأن تنظر الى صُورِه وهو صغير السنّ حيث لم تقم محظورات المجتمع بتقييد حركاته بعد، وقبل بنائه على النحو المستقيم.

*أرشيف الصور الفوتوغرافية التي التقطها المدني على مدى 55 عاما هو اليوم بحيازة المؤسسة العربية للصورة، والذي يهتم به بشكل خاص الفنان اللبناني أكرم زعتري.

هذا النص نشر سابقا على موقع “قديتا“ وتنقله “بخصوص“ بموجب اتفاق نشر متبادل.

Guest Contributor

Leave a Reply