نقاش في آليات التنظيم المثلي وقوننة الجنسانية في لبنان
306,671 viewsكتب هذا المقال من وحي الكلمة التي ألقيت في إطار فاعليات اليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية للعام 2012، الذي حمل عنوان “أنا كمان بصوّت… القانون لازم يحميني“، وأتى بتنظيم من جمعية“حلم“، في الثالث من حزيران الجاري. ألقيت الكلمة في جلسة الحوار “حول العنف الذي يطال المثليين/ات، ثنائيي/ات الميول الجنسية ومتغيّري النوع الإجتماعي والمتحوّلين/ات جنسياً“. وسوف يسلّط المقال الضوء على واقع النساء عامة، والمثليات منهن خاصةً، على الصعيدين الإجتماعي والقانوني.
طُلب منا التركيز، في هذه الجلسة، على التمييز ضد النساء المثليات تحديداً، لكننا لن نلتزم بذلك حصرياً، لأن التمييز برأينا هو موضوع معقد، ولا تنفع تجزئته من باب التبسيط.
إن البند 534 من القانون الجزائي اللبناني ليس الأداة الوحيدة التي يتم استخدامها في لبنان لقوننة الجنسانية، وشرطنة أجساد كافة القاطنين/ات في هذا البلد. فالنظام القانوني اللبناني يعج بالبنود التي تسهّل تدخّل الدولة في الحياة الشخصية، على الرغم من تشديد الدستور على حماية الحريات الشخصية من حيث المبدأ. وقد باتت مخاطر البند 534 واضحة، إثر تناولها في العديد من الدراسات، ومنها الدراسة التي أجرتها جمعية “حلم” (مرجع) في هذا السياق.
نبدأ أولاً بقوانين الآداب العامة التي بني أساسها على أن الأفراد ملزمين بالخضوع لما تحدّده المعايير المجتمعية كـ“مؤدب“. يسهل علينا مثلاً، انتقاد المعيار المتبع في القانون الذي يمنع إظهار الركبة في الأماكن العامة، ولكن، هل يكفينا تغيير المعايير؟ فنسمح بإظهار الركبة، لكن نمنع الوصول إلى حدّ يلامس المؤخرة مثلاً؟ أم أن النضال يجب أن يتركز على أساس المشكلة، وهو السماح للدولة بالتدخّل في اللباس الفردي، انطلاقاً من أنه خيار شخصي؟ فحرية الملبس لا تقتصر على حرية أن تكون المرأة محجبة أم مكشوفة الرأس. ولماذا يسود هذا الذعر الإجتماعي من أن تتسكع النساء (ولا سمح الله الرجال) عراةً في شوارع المدينة، مثلاً؟ وهل نفترض أن القانون هو الرادع الوحيد أمام تعري الناس؟ “ولكن معظم هذه القوانين غير مطبق“، يمكن للبعض أن يقول، وهو أمر صحيح.
ولكن، هناك قوانين يتم تطبيقها لا تقل خطورة عن قانون تحجيب الركبة. فلنأخذ مثال المثليين الذين أدخلوا السجون و/أو المخافر اللبنانية. ما هي التهم التي وجّهت إليهم؟ ربما يتم اتهامهم بممارسة الجنس المخالف للطبيعة (534)، إلا أن ذلك يترافق مع استخدام ممنهج لقوانين تعاطي المخدرات (تبحث الشرطة أولاً عن الحشيشة في جعابهم)، وقانون الدعارة، لتضاف إلى القوانين التي تنطبق على ممارسة الجنس في الأماكن العامة (بغض النظر عن الجنس القانوني للشركاء). بالنهاية، يتم استهداف مناطق التعارف التي يرتادها من قلّت فرصهم في الحصول على الجنس الآمن، على أمل أن يتم الوقوع على شخص يود تقديم الجنس المثلي مقابل المال، وأن يتم العثور على بقايا حشيشة في الجيوب والسيارات.
الواقع هو أننا نحن، معشر ناشطي الجنسانية، غير مهددين بسطوة القانون، وينعكس التنميط الطبقي هذا أسساً للتنظيم المثلي، كما سنوضح لاحقاً.
فوفقاً للقوى الأمنية، تطبّق هذه القوانين على الجميع، وإن كان برأينا إنها تطبّق بشكل استنسابي، وتستهدف بالدرجة الأولى الأقليات الجنسية (من المثليين وسواهم). ويتكرر هنا السؤال المطروح سابقاً: ما هي مصلحة المجتمع اللبناني في السماح للدولة بمساءلة الناس حول ممارساتهم الجنسية، المثلية منها والغيرية، الداخلة ضمن إطار الزواج أو خارجه؟
وإن كانت هذه الدرجة من العنف القانوني لا تكفي، فإن القانون اللبناني، وتطبيقه من دون محاسبة، يسمحان بممارسات غير أخلاقية، منها المعلن، كالفحوصات الشرجية الممنهجة لأي شخص قررت قوى الأمن أنّه مشتبه به بالمثلية، ومنها غير المعلن، كالتعذيب والإغتصاب في النظارات والسجون، بالإضافة إلى تهديد النساء بالفضيحة، بغية الحصول على خدمات جنسية وسواها.
وماذا يردّنا أيضاً عن قوانين لا تطبّق على “أقليات جنسية” وحسب، بل على المجتمع بشكل عام، كالقوانين المسلعة والمسيئة لأجساد النساء؟ ماذا عن القانون الذي يتيح للمغتصب عرض الزواج على المغتصبة كمخرجٍ من العقاب؟ وقوانين التحرش الجنسي التي ترتكز على مبدأ “هتك العرض“؟ وقوانين الأحوال الشخصية التي تلغي سلطة الدولة من أصلها على أحد أهم مجالات الحياة الشخصية، والمنزل؟ وما موقفنا من قوانين الزنى مثلاً، حين ندرك أن مساحة الزنى عند الرجل تقتصر على السرير الزوجي، أما المرأة فتحكم على أساس السمعة، مع العلم أن الزنى عقوبته السجن؟
وفي مواجهة كل هذه القوننة البدائية شكلاً والقمعية مضموناً، تكثر بطبيعة الحال المبادرات. فما هي المقاربات التي نتبناها نحن؟ وهنا، فلننظر إلى تنظيماتنا المثلية والكويرية بطريقة نقدية، ولو لمرة، بشكل علني، ونسأل أنفسنا بعض الأسئلة المملة والصعبة:
أولاً، لا بد من طرح سؤال على آليات التنظيم المثلي، الرسمي منه وغير الرسمي، هو التالي: لماذا غابت قضايا التحول الجنسي عن الأجندة المطلبية؟ وكم مرة أعدنا إنتاج الخطاب الإقصائي القمعي بحجج علنية، كالخوف على صورتنا أمام الناس، والخشية من الناس لجهة تقبّلهم المحدود للمثليين، عند طرح قضايا عاملة الجنس المتحولة؟ أو بشكل غير علني، من خلال النكات المتطايرة والناقدة لأسلوب حياة المتحولات.. فكم مرة برّرنا داخلياً القمع الذي يعشنه عبر القول إنهن جلبنه لأنفسهن؟ أو الحجج غير العلنية، كعدم تبني أي قضية تعنى بالتحول الجندري أو الجنسي؟
ثانياً، الذكورية في المجتمع المثلي. وهنا، نسأل: كم نكتة محورها الإغتصاب يجب على المرء تحملها أسبوعياً، كي نجد مكاناً لنا في الحراك المثلي؟ كم مرة أتحمل تسخيف الأنوثة والـ“نسونة“؟ كم مرة سأمنع من الحديث عن العادة الشهرية؟ كم مرة سأضطر لأقف وأستوعب المجاهرة بالعدائية تجاه القضايا النسوية؟ إلى متى سنتحمل ترميز المثليات وتجريدهن من سائر هوياتهن؟
ثالثاً، تذويت الطبقية. كم منا ينتمون إلى جماعة الساهرين في أماكن التعارف، لانعدام الحلول الأخرى أمامهم؟ كم منا يمارسون الجنس في سياراتهم، لأنهم ليسوا من ذوي القدرة على امتلاك الحياة المستقلة إقتصادياً؟ وأكثر من ذلك، نتكلم كثيراً عن المثليين من خارج بيروت ومن خارج دوائرنا، فأين أولئك من صناعة القرارات في الحراك المثلي؟ وما هو خطابنا غير الرسمي عن “أولئك“، أي “جماعة الملاهي الليلية“؟
رابعاً العنصرية. وهنا يطرح السؤال البسيط.. في مصر، يختلط المصريون النوبيون وغير النوبيين والسودانيون وإلخ، جميعاً، في الحراك المثلي، فأين نحن من ذلك؟ كم مثلي/ة غير لبناني/ة منخرط/في صفوفنا؟ من منا سبق وارتبط بعلاقة عاطفية مع أحد “أولئك“؟ ألا يدل ذلك على شيء ما؟ كم مرة سنضحك على فكرة مواعدة “سريلنكية” من شدة اليأس قبل أن نتنبّه إلى العنصرية المطلقة التي نكرّسها بالتكرار؟ عنوان الحدث اليوم واضح: أنا أصوّت وبالتالي على الدولة حمايتي… ما هي الرسالة الموجهة لذوي الميول والهويات الجنسية غير التقليدية من غير اللبنانيين؟
سادساً، مراضاة النظام القائم، والسباق لاستعطاء القبول. لمَ يبقى تشفّع الرضى استراتيجيتنا الوحيدة؟ على المثلي، للحصول على القبول، أن يكون جميلاً، أن يعمل في المجالات الفنية، أن يحفظ الأعراف المثلية عن ظهر قلب، أن يكون عازباً، صاحب شقة في الحمراء أو ساسين أو الجعيتاوي، أن يكون خبيراً في شؤون تصميم الأزياء وتنسيقها. ويتوجب على المثلية أن تكون نسوية، و“غرافيك ديزاينر” أو درست صناعة الأفلام، أن تكون قد حفظت “ذي أل وورد” عن ظهر قلب، وتتكلم الإنكليزية بطلاقة. وعلى الجميع أن يتعبد لقوس القزح وألوانه، ويعرف تاريخ ستون وال، وهارفي ميلك، واليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية. وهنا نسأل: هل صراعي يصب لصالح هوية بديلة أم حرية الخيار والأجساد؟ لماذا نحتفل باليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية وفقاً للقالب الفرنسي (17 أيار) وليس الجزائري (10 تشرين الأول) مثلاً؟ المصريين، في هذه السنة، وبدلاً من أن يحتفلوا باليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية حصراً، اختاروا أن يعيدوا استذكار أحداث “الكوين-بوت” أيضاً، وأن يصب الكلام في إطار التمييز، وليس تعبير “رهاب المثلية” الغريب العجيب. ما هي القيمة الفعلية لليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية كي نتعبد له؟
خامساً، الخلط بين توفير الخدمات والعمل المطلبي. لا يخفى على أحد من العاملين في مجالات الجنسانية في لبنان أن التطور الطبيعي لأي ناشط يكون كالآتي: أولاً الجهل، ومن ثم الحادثة التي توقظ فينا النقمة، ومن ثم نجد شركاء فنؤسس مجموعة هدفها تغيير القانون الفلاني، ومن ثم نبدأ بتلقي التمويل لتأمين الخدمات. وتمر السنين، ونبتعد عن العمل الجماعي إلى العمل الخدماتي الذي، بالإضافة إلى كونه يصب ضمن مسؤوليات الدولة وليس الجمعيات، إلا أنه أيضاً أداة لإعادة إنتاج الطبقية. فذوو الخبرات يتوظفون، بينما الآخرون لا يستأهلون إمتياز تسميتهم بالناشطين حتى. العمل الخدماتي ليس مسؤولية المجتمع المدني، بل هو مسؤولية الدولة، ومن واجبنا أن نعمل على تعديل سياسات الدولة، وليس الإنغلاق على أنفسنا كما لو أن لا مجال للصلح مع المجتمع العام. كما أن العمل الخدماتي يساهم في إعادة إنتاج الطبقية الآنفة الذكر، وإن ذلك هو من طبيعة العمل الخدماتي. لا يخفى على أحد أن المجتمع المدني بشكل عام والمجموعات المرتبطة بموضوع الجنسانية بشكل خاص تحكمها الأفيال، أي الكبار الذين كانوا موجودين منذ فجر العمل الجماعي المثلي. هم من لهم القدرة على الوصول إلى التمويل، وبالتالي المشاريع. كما تحوم حولهم وجوه المحسوبيات التي تؤمن لهم الوظائف وفقاً للعرض والطلب.
في النهاية، نأمل ألا يؤخذ كلامنا في إطار النقد الحاقد أو الفارغ. لو لم نكن مؤمنين بهذا العمل، لما كان أحد قد عذب نفسه بالتفكير في المشاكل. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن هذه المشاكل والإشكاليات لا تنحصر بالحراك المثلي والكويري، بل هي امتداد للمشاكل المتفشية في المجتمع المدني اللبناني والمجتمع اللبناني بشكل عام. وهدفنا من تسليط الضوء على هذه الإشكاليات جنباً إلى جنب مع تعقيدات القمع الذي نعيشه، يأتي من أن الحراك المثلي والكويري ما زال يقاوم الإعتراف بالتعقيد، ويبحث عن أجوبة تبسيطية لمشاكل شديدة التعقيد، فنفشل لأننا، من دون علمنا، نعيد إنتاج المشاكل، في هذا السعي الدائم والمسعور إلى التحرّر.
كما نريد أن نشدّد على مفصلية المرحلة التي نعايشها (وهل خلت أي مرحلة من المفصلية؟)، فنحن نعيش ما يشبه النقد الذاتي في دوائر المثلية والكويرية الذي يأخذ شيئاً فشيئاً شكل النقد البناء. ففي معظم الدوائر، نلاحظ حضور الأحاديث التي تبحث عن سبل جديدة للعمل، وعن أفكار حول الخطوات المستقبلية. ولو تكن هذه المرحلة نقدية، لما كنا قد تكلمنا في هذا الصرح العام عن هذه المواضيع أصلاً.
Leave a Reply