الجسد بين ضيق الدين ورحابة الفن
519 viewsنقلاً عن موقع قاديتا
قد فصلت الديانات جميعها، ببراعة جرَّاح، الروح عن الجسد. ومن ثم ربطت بالشياطين كل ما يحمله الجسد من صفات جمالية، ولم تلتفت طبعاً إلى لوحات الرسّامين الباحثين في علوم الجسد وغموضه على مرّ العصور، مثل ميكيل أنجلو الذي اعتبر أن جسد الإنسان العاري هو موضوع الفن الأساسي، ولذلك قام بدراسة أوضاع الجسد وتحركاته ضمن بيئات مختلفة. وكذلك رودان وأنجريس وموديلياني وغيرهم كثر ممن عشقوا الجسد ألإنساني وغطَّت أجساد النساء أقمشةَ لوحاتهم، بعيداً عن أي دنس ورجس.
رأسي امتلأ بالطَّلِّ/ وجدائلي بندى الليل/ خلعتُ ثوبي فكيف ألبسه؟/ غسلتُ رجليَّ فكيف أوسِّخهما؟/ مِن الكُوَّة يمدُّ حبيبي يده/ فتتحرَّك له أحشائي/ أقوم لأفتحَ لحبيبي، ويداي تقطران مُراً، مُراً يسيل من أصابعي/ على مقبض القفل».
عندما قرأت هذه الأسطر راق لي الوصف الإيروتيكي اللذيذ، وانتفض فانتازمي الخبيث من مخبأه؛ فانتازم متيقّظ دوماً لكل ما يوحي بلذة خيالية لمشاهد حميمية، أحادية كانت أم بين جسدَين. لذلك وجدتُني أبحث عن بقية النص لأعرف ما صار إليه الحبيبان بعد فتح الباب. بحثت في «غوغل» كعادتي الكسولة عندما تُصيبني حالة الإصرار المقيت بمكان ما في دماغي (تباً لدماغ البشر وفصوصه وتعقيداته وخلاياه اللامتناهية)، فإذا أنا أمام حقيقة لم أكن أتخيّلها أبداً، وهي أن النص السابق هو جزء من «نشيد الأناشيد»!
ازدادت حماستي في البحث، وتوالت الأسئلة الفضولية خصوصاً أنني أملك الآن دليلاً من الله نفسه، أشرعه في وجوه المتديّنين المعادين للجسد واللذة.
لطالما آمنتُ أن رجال الدين ليسوا سوى خبثاء اكتشفوا أسرار الجسد والجنس وقرَّروا الاحتفاظ بها لأنفسهم. وما يؤكد ذلك هو الثروة اللغوية الغزيرة بما يتعلق بلغة الجنس في المؤلفات التراثية العربية: «تاج العروس» للزبيدي و«لسان العرب» لابن منظور و«رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه» للنفزاوي وغير ذلك للتيفاشي وابن قيّم الجوزية… ناهيك بما تطفح به حياتنا اليومية من مفردات جنسية، فمن منا لم يسمع بكلمات مثل: «منيك» و«منيكة» و«مأيرة معي»…؟
لقد ندمتُ للمرّة الألف لأنني لم أصبح «سكسولوج»، فاملأ مكتبتي بأوفيد والماركي دو ساد وجورج باتاي وبكتب تاريخية ودينية متخصصة بالجنس. وهنا أعود بذاكرتي إلى مقاعد الدراسة الجامعية، خلال السنة الأولى، وخاصة تلك المقاعد الخلفية حيث كنت أختبئ فيها عن عيون المستمعين لحصص التفسير، خالقةً لمخيّلتي عالمها الخاص بقراءة «روايات عبير» (الساذجة) التي غذّيت بسطورها عاطفتي المكبوتة آنذاك، مبتعدةً عن جعجعة أستاذ التفسير الناصح بغضِّ البصر، والترفُّع عن الغرائز الجسدية، والعمل الدؤوب على قهرها لنيل الثواب بالآخرة!
وبالطبع لا أستثني ديناً في كلامي الساخر هذا، فجميع الأديان، وإن اختلفت تراتيلها، ولكنات الداعين إليها، تهدف إلى عبرة أخلاقية واحدة مفادها أن الله والجسد خطان متوازيان لا يلتقيان أبداً! ناهيك طبعاً عن وصاياها المضاعفة الخاصة بالمرأة كونها هي مَن اتَّبعت إبليس وثعبانه!
لقد فصلت الديانات جميعها، ببراعة جرَّاح، الروح عن الجسد. ومن ثم ربطت بالشياطين كل ما يحمله الجسد من صفات جمالية، ولم تلتفت طبعاً إلى لوحات الرسّامين الباحثين في علوم الجسد وغموضه على مرّ العصور، مثل ميكيل أنجلو الذي اعتبر أن جسد الإنسان العاري هو موضوع الفن الأساسي، ولذلك قام بدراسة أوضاع الجسد وتحركاته ضمن بيئات مختلفة. وكذلك رودان وأنجريس وموديلياني وغيرهم كثر ممن عشقوا الجسد ألإنساني وغطَّت أجساد النساء أقمشةَ لوحاتهم، بعيداً عن أي دنس ورجس.
وأحب أن أذكر هنا لوحة «أولومبيا» للرسام الشهير مانيه، والتي لم تكن فاحشة بقدر ما كانت متحدّية لنفاق المجتمع. وزخارف غوستاف كليمت التي زادت الجسد رقَّة وشفافية.
أما فيلم المخرج النمساوي ميكائل هانكي «الشريط الأبيض»، والذي يبحث عن جذور الإرهاب، فهو يعالج موضوع التشدّد الديني وأثر التزمّت والتطرّف في التربية الدينية على الأفراد، مسلِّطاً الضوء على الشريط الأبيض، عنوان الفيلم، الذي يستخدمه الأب (راهب كنيسة) ليربط يد ابنه المراهق بالسرير كي يعاقبه لشعوره بلذّة الاستمناء! ويتابع وصفه عن كيفية تأثير الكبت الجنسي على الفرد، وإحلال الشعور بالذنب بدل اللذة، مدللاً بمثال آخر عن طبيب وأب يتحرّش بطفلته جنسياً. كل هذا يمرّ من خلال سلسلة من التربية الاجتماعية العنيفة الموجَّهة للأطفال، والتي تجعلهم يتمرّسون لاحقاً بالعنف والقتل والجريمة، في عالم مريض مليء بأصوات فتيات يافعات يشعرن بالذنب إن لمست أيديهن البظر، عوض شعورهن باللذة؛ الحالة الطبيعية لمراهقات ولدن بمكان آخر تُعلَّق على جدران متاحفه لوحة «الأولمبيا».
بقلم أسمى العطاونة
الغاوون، العدد44 ،2011
Leave a Reply