(حالة شاذّة (2
563 viewsلقراءة الجزء الأوّل
وفتحت عينيّ لأرى قطرات الماء تتجمع وتنسال على زجاج شباك غرفتها وبدا وكأنّ كلّ شيء رهن الانتظار. نحن والوقت والعالم- كلنا رهن الانتظار والانصياع لصمت أثقل منّا وأثقل من الدقائق التي كنت أعدّها لكي تستيقظ وتفتح لي نوافذ أخرى لا أراها إلا في عينيها وشفتيها وبين فخديها.
أحبّ ذلك الصمت حين أسمع صوت الشتاء يقبّلنا في كلّ مرّة يطرق فيها ذلك الحاجز الشفاف الذي يفصل بيننا وبين عالم لا يريد لنا شيئًا سوى الاحتراق؛ ليس احتراق شهوة تولد وتتحد في لحظات تقطر عرقًا وشغفا شفّافا كاللازَوَرد، بل احتراق من نوع آخر كتب على الآخرين. هؤلاء الغرباء الذين خرجوا عن نسق العادي الرتيب واختاروا هامشاً آخرَ على الطريق ولونًا آخر للحبّ ونسقا مختلفا من الجنون.
هل كانت حماقة منّي أن أدفعها وأهرب حين قبّلتني أوّل مرّة؟ غريب كيف لنا أن نلوم الآخرين إذا انفضّوا عنا إذا كنّا نحن أنفسنا نهرب من اختلافنا لنستظلّ بالعاديّ ادّعاءً واعتقادًا منّا أنّ ظلالاً -إذا دارت الشمس دارت حيث تدور- يمكن أن ترمي بسوادها المألوف علينا لنختبئ من أفكار غرست فينا لتشوّه صورنا أمام أعيننا وتندثر بعدها تحت غطاء الأعراف بأشكالها.
لا زلت أذكر تلك اللحظة حين لثمتني فتوقفتْ أفكاري عن السّرد وذابت كلمات بابلو نيرودا بين شفتيْنا. أذكر كيف تآمرتْ من حولنا القصائد والظروف لتلعثم قبلة الطريق التي كنت قد رسمتها لنفسي، وتذيب جليدًا متراكمًا من النكران كنت قد حمّلته لذاتي النزّاعة للقدسيّة والعريّ من الآثام. فيداها حول خصري تداعب ما تبقى من عذريّتي كانت قادرة على إسقاط ما أحمل من التوراة والقرآن والإنجيل من ذاكرتي التي تقزّمت مع الأحساس بدفء شفتيها ولسانها يخترقني لأذوق طعمًا آخرَ مختلفًا، ولأقف بين يديها عارية كما لم أكن من قبل، من دون سبيل أو طريق أو خطّ يفصل بين الأبيض والأسود ولا يعود أمامي سوى أن افتح الباب وأهرب إلى نفس الشارع الذي حملني إليها.
ذلك اليوم خفت من انهيار شتاتي أمام سطوة خروجي من نسيان عميق يرافقه حضورها الثابت أمامي ومن حولي. ما كان من ضعفي إلا أن فتحت باب غرفتها مُسرعة نحو الرواق لأخرج من البيت. “إستني…” مدّتْ يدها ونادتني بصوت يملؤه الصّدى الذي أيقظ ذاكرتي. هناك نسيت حقيبتي وكتبي وحجابي، ولم يكن أمامي سوى أن أجيب ذلك الصدى بخطوات فارغة وتلعثم ملحوظ تشوبه الأسئلة. أمسكت يد الباب وكانت باردة مع احتراقي. كانت هناك تجلس على زاوية السرير، هذا السرير، وتجلس في عينيها كتلٌ من الاضطراب الذي غطى على بريقهما الأخضر الربيعيّ. وقفت بوثبة واحدة ونادتني، وبدا اسمي ثقيلا كما لم أسمعه من قبل واخترت ألا أسمعه. كان حجابي ملقى على الكرسيّ كبقايا أعصابي المتوترة المتناثرة. انتسلته ووقفت أمام المرآة ألفّه على شعري وعنقي وما تبقى من حضوري فكان وجهها يسبقني إلى المرآة ليذكّرني بأني غبتُ منذ حين.
“اتطلعي فيي.”
“ما تقربي… ما تلمسيني.”
“بس اسمعيني.”
“بيكفي.”
“بيكفي أحبك؟”
سقطت كلماتها على حواسي كصخر يرتطم بوادٍ ليتحطم ويحطم معه ما لم تره عين ولم تسمعه أذن. كانت كلماتها تتوالى عليَّ كصدمات تهزّ جهازي العصبيّ؛ بئر معطّلة تسقيني تارة وتسلبني حقي في الحياة تارة أخرى. تجمدّت وصارت البرودة تتسلل في جسدي لتطفو عليه قشعريرة تراكمت لتصل حدّ الذروة حين وضعت يداها على خصري وطوّقتني فذاب الصمت في دفء أنفاسها التي داعبت كتفيّ من فوق القميص. لا أعرف أيّ غياب طفيف جعلني أستدير لتغزوني عيناها وأتواطأ معها في قبلة رطبة متوترة أعادت إليّ خيطًا رفيعًا من الحياة وسلبتني ما تبقى داخلي من صمود، لأفتح الباب وأهرب مرّة أخرى.
يومها كانت قنوات الماء الصغيره المنسالة على جوانب الشوارع تسبق توتر قدمي التي أرادت أن تركض نحو الخلاص، لكنّ وجه الشتاء لم يتوقف عن صفعي وكأنه تعمّد أن تضربني زخّات المطر لأستيقظ من حالة اللاوعي التي أصابتني. لكنني استمريتُ في الهرولة إلى أن وصلت إلى سيارتي. لا أذكر كيف شغّلتها ولا كيف شققت طريقي عبر أزمة السير الخانقة في ميدان الشهداء وسط المدينة لأصل البيت. لا أذكر كيف دخلت البيت ولا مَن رأيت… لا شيء. كل ما أذكره أنني دخلت غرفتي، أغلقت الباب واستندت عليه وأخذت نفسًا عميقًا. كانت تلك اللحظة الوحيدة التي استرحت فيها من تسارع أفكاري ونظرت حولي لأحسّ بأنّ ثمة شيئًا مألوفًا لم يتغير. غرفتي وسريري وكتبي وشموعي كلها كانت هناك بانتظاري على نفس حالها التي تركتها عليها ذلك الصباح. كنت بأمسّ الحاجة إلى ذلك المألوف لأستظلّ بظله، فرميت بجسدي على السرير وأغمضت عينيّ من دون أن أنام. يؤرقني اضطراب متسارع لا يهدأ وإحساس بنبض شفتي ولساني حيث تركت عبقها ولعابها.
دقت ساعة منتصف الليل وما كان منّي الّا أن استسلمت لنبضها يجتاح حواسي؛ وأمامه سقطت صريعة.
للكاتبة هيام أرض من نابلس- منقول عن موقع قديتا.نت بموجب اتفاق تبادل مع “بخصوص”
Leave a Reply