اللغة والهويّة: المثلية في التاريخ العربي
3,395 viewsيقول ابراهيم محمود في كتابه المتعة المحظورة: الشذوذ الجنسي في تاريخ العرب: “اذا كانت اللغة هي هوية الانسان، علامته الفارقة، فهي كذلك الدالة عليه، والمؤرخة له في المقابل… ان اللغة مجتمع قائم بذاته، من حيث قابليتها للتحوّل، والتجذر في الذاكرة، والاغتناء، وتفكك المعنى وموت معنى وانبعاث آخر. وهي في تحولاتها هذه، تشكل تاريخا واضحا حول صانعها، عدا كونها تاريخا له وعنه.”
فما هو تاريخنا كمثليات عربيات ومن صنع تاريخنا أدبا وتراثا؟
إمكانية إيجاد معلومات محايدة او داعمة للمثلية الجنسية هي قليلة جدا. هناك الكثير من الكتابات السلبية التي تتعامل مع المثلية الجنسية كشذوذ وانحراف. اما المراجع التي تتناول المثلية الجنسية كهوية جنسية وتتعامل معها بشكل طبيعي هي قليلة جدا وكأنها ابرة بين كومة قش. كمثلية فلسطينية تهمها القراءة عن احد مركبات هويتها (مثليتي الجنسية)، في كل مرة اكتشف كتابا أو كاتبة أو كاتبا كتبوا عن المثلية الجنسية العربية، أشعر كأني اكتشفت كنزا ثقافيا!
عندما سمعت في المرة الأولى عن د. سمر حبيب وعن كتابها المثلية الجنسية الأنثوية في الشرق الأوسط، Female Homosexuality in the Middle East، انتابني شعور رائع وكدت ألا أصدق عيني. ولما قرأت لأول مرة جوزيف مسعد ”اعادة توجيه الرغبة: المثلية العالمية والعالم العربي” Re-Orienting Desire: The Gay International and the Arab World فهمت الفرق بيني أنا – المثليّة الفلسطينيّة – وبين المرأة المثليّة الغربيّة كحركة سياسية. وقبل فترة قصيرة تعرفت الى كاتبة جديدة عن طريق مذكراتها تحت عنوان Damascus Diary، وفيها فيها كتبت الكاتبة السورية عن تجربتها مع سائق التاكسي في الطريق إلى الجامعة وعن، الحارس على باب الجامعة. تشجعت كثيرا وتفاءلت، وكأن طاقة جديدة نفخت في داخلي، وقلت في نفسي: “اذا هي بسوريا عندها القوة انها تناضل من اجل مكانتها وذاتها، ليش انا ما اقدر؟”.
هذه القراءات وهذه النصوص داعمة ومدعّمة في الوقت نفسه، وتشعرني كمثلية عربية بالفخر، وبأني جزء من ارث ثقافي وحضاري وسلوكي. عندما أقرأها، أتأكد بأني لست وحدي، وانني جزء من مجتمع مثلي عربي، يكتب وينشر ويلقي الضوء علي وعلى شرعية وجودي وشرعية وطبيعة وجودنا كمثليين وكمثليّات. وقع هذه القراءات علي كان قويا جدا، وتعلمت منها الكثير. الشعور الأول الذي انتابني عند قراءتها، كان أنه: ” لو أن أمي، أبي، أختي، او أخي يقرؤونها، لكانوا فهموا ان مثليتي هي طبيعية، وأني جزء من مجموعة كبيرة ومن هذا المجتمع”.
ليس للمثلية الجنسية، جنسية غربية أو شرقية أو طائفية. والدليل أن تلك الصبية الموجودة في سوريا تمر بتجارب مثل تجاربي، وكذلك المثليات في لبنان والأردن ومصر والعراق والخليج العربي. ان هؤلاء الكتاب والأشخاص، أبطال القصص والروايات والقصائد، هم كلهم\ن عرب، وهم\ن اثبات على ان المثليّة الجنسية ليست هوية استوردتها المجتمعات العربية من الغرب. عندما أدركت ذلك، بدأت أفكر في أهمية الكتابة بلغتي، بالعربي، لأنها واحدة من مركبات هويتي الأساسية، وان تناسيت مرات أو نسيت.
وهنا، أود ان أعود بالزمن إلى الوراء، إلى تاريخنا وأدبنا وثقافتنا العربية، لأرى ماذا كتب عني؟ عنا؟ اي كلمات إستعمِلت؟ ما كانت دلالاتها وأبعادها ومعانيها؟ أين استعملت؟ وأي غرض خدمت؟
هناك اتهام دائم للمثليين العرب، بأن مثليتهم مستوردة من الغرب. لكن من الواضح للجميع (وان كان معظم الناس ستجاهلون الحقيقة عن قصد ويتسترون عليها) ان المثلية الجنسيّة كانت موجودة في الحضارة العربيّة والحضارة الاسلامية، وهناك دلالات تاريخية وأسماء وكتابات تؤرخ علاقات جنسية وحميمية بين أشخاص من الجنس نفسه.
وهنا، أود أن أورد مجموعة أمثلة هي غيض من فيض الأدب المثلي الذي يعج به التاريخ العربي. وفيما يلي اقتباسات من نصوص الشاعر العربي الكبير أبو نواس:
اضجرني الناس يقولون: تب (3)
مالي للناس وما شانيهْ؟
ان كنت للنار فما حيلتيْ؟
عذبني الله واشقانيهْ!
او كنت للجنة احيا بها
فما عليكم يا بني الزانيةْ؟
وفي مكان آخر، يتحدث أبو نواس عن حبه لأبي عبيدة النحوي فيقول: (4)
صلى الاله على لوط وشيعته
ابا عبيدة قل بالله: آمينا
لأنت عندي بلا شك زعيمهم
منذ احتملت ومنذ جاوزت ستينا
ويقول مصعب الكاتب (5)
انا الماجن اللوطي ديني واحد
واني في كسب المعاصي لراغب
الوط ولا ازني فمن كان لائطا
فاني له حتى القيامة صاحب (274)
لكن اذا ما أردنا ان نبحث عن السحاق في الأدب والتاريخ العربي، فهو شبه غائب تماما، وتلك نتيجة طبيعية لغياب المرأة في الأساس عن ساحة الحياة الثقافية والسياسية والفكرية في ذلك العصر.
يقول ابراهيم محمود “تاريخ الجنسانية يغيّب في تاريخه ما هو من صميم بنيته (السحاق) الوجه الآخر للواط! وعدم ذكر السحاق، بمثابة نفي الاعتراف به. فهو كحدث حسي غير ملاحظ، انه ثابت، او يكاد، يعيش فرا وتخفيا (يتحدث الكاتب هنا عن البظر) مقابل القضيب الملاحظ جيدا. ثمة استقلالية يتباهى بها قضيب الرجل، وهذا ينعكس على الثقافة عموما، بتذكيرها بقوة!” ( كتاب “المتعة المحظورة”)
ولكن برغم ذلك، نجد فقرة كتبت في عهد الخليفة المأمون عن السحاق ويرد فيها: (6)
السحاق قديم في النساء، ولهن به لذة يهون عندهن الافتضاح به والاشتهار به. وأول من سنّ السحق ابنة الحسن اليمني، وكانت وفدت على النعمان بن المنذر فأنزلها عند امرأته هند، فعشقتها وشغفت بها، وكانت هند أحسن أهل زمانها…. وبلغ من شغف كل واحدة بالأخرى ما لم يكن بين امرأتين قط قبلهما، فلما ماتت ابنة الحسن اعتكفت هند، امرأة النعمان، على قبرها واتخذت الدير المعروف بدير هند في طريق الكوفة. وفيها يقول الفرزدق مخاطبا جرير بن عطية يهجوه:
وفيت بعهد منكَ كان تكرما كما لابنة الحسن اليماني وفت هند
(رشد اللبيب ص. 123-4) (بقول الحسن اليمني المتوفّى عام 850 ميلادية)
وهنا أود أن أتوقف عند مفردة “سحاق”، وهي مشتقة من فعل “سحق” الشيء، أي دقّه دقّا شديدا. اذا، في فعل “السحق” دلالة فعل عنيف بين جهتين، وكأن احدة العاشقتين تسحق الأخرى! ولعل ذلك هو السبب الذي دفع بنساء تلك الفترة إلى استبدال كلمة “سحاقية” بـ”ظريفة”.
يقول التفاشي (7) ” انهن يسمين أنفسهن: الظراف. فاذا قلن فلانة “ظريفة” علم بينهن انها سحاقية. وهن يتعاشقن كما يتعاشق الرجال، بل اشد. وتنفق احداهن على الأخرى كما ينفق الرجل على عشيقته، بل أكثر اضعافا مضاعفة حتى يبلغن فيه، على الانفاق، الألوف والمئين…”
ويفسر لنا محمود سبب اختيار كلمة ظريفة ويقول (8) ” الظرف هو الوعاء ويترادف مع ما تملكه المرأة (اي الفرج) وثمة اسقاط للمعنى حيث يتم استظراف المرأة لسواها، وميلها اليها، سواء باعتبارها عاشقة او معشوقة، وفي الحالتين، فهما تشتركان وعائيا، في صفة تجمعهما معا ”. (294)
بكل الأحوال، السحاق واللواط موجودان في تاريخنا وفي أدبنا وجودا بارزا واضحا، وأية محاولة لانكار ذلك هي محاولة خاطئة، قامعة، غبية، متخلفة وجبانة. كثيرا ما يعتبر اللواط والسحاق شذوذا، واذا ما فكرنا في الأمر، نجد أنه فعلا شاذ. لكن ما معنى شاذ وشذوذ؟ ما هي دلالتها الحقيقية خارج الشعور بالاشمئزاز؟ (9)
بحسب تعريف المنجد،
شذ عن الجمهور او الجماعة: ندر عنهم وانفرد.
وشذ عن الاصول – خالفها
والشذاذ من الناس – الذين يكونون من القوم وليسوا من قبائلهم، القلال.
في قراءتنا للماضي، ولكل ما يتعلق باللواط والسحاق، نجد أن “الأخلاقيات” المفروضة اجتماعيا كانت قامعة وضاغطة إلى حد أنها شوهت التاريخ والأدب وغيرتهما. فقد نجحت المحاولات الكثيرة في ربط اللواط والسحاق بكل ما هو غير اخلاقي وبكل ما هو غير طبيعي. وهنا، يبرز دور جمعيات المجتمع المدني وحقوق الانسان والمثليين، في تقديم قراءة جديدة وصادقة للتاريخ، وفي اعادة تشكيل اللغة والتوثيق، وتوفير خطاب نقيض لهذا الخطاب.
بعد التواصل مع الماضي، أود أن أعود إلى الحاضر لأقتبس عن الناشطة النسوية الفلسطينية عرين هواري، في حديثها عن المثلية الجنسية ونقدها لما هو مقبول وغير مقبول في امسية لجمعية “القوس” في حيفا:
الصحيح واضح ومعروف، للجنسانية حدود واضحة، فالجنس هو اما ذكر او انثى وكل ما عداه اما شاذ او ناقص او غير طبيعي، والميل الجنسي واحد وهو مغاير وكل ما عدا ذلك فهو شاذ او كافر ومثير اما للسخرية واما للغضب واما للغثيان. والجسد الجميل هو نموذج واضح، او بعض نماذج واضحة، اللون واضح، والوزن واضح. والبيت هو ايضا صفقة واحدة، له حدوده، وله قوانينه، وله منظومته البطريركية، وكل من يخالفها فهو ليس من أهل البيت.
اليوم، أود أن أعرض للتغيرات التي حدثت للمثلية الجنسية في الألف سنة الأخيرة، اذ أن غالبية الاقتباسات التي ذكرتها من قبل تعود لحوالي سنة 800 او 850 ميلادي.
احدى التغييرات الجذرية التي نراها اليوم، دخول كلمة “مثلي ومثليّة ومثليين ومغايرين” الى قاموس اللغة العربية. هذه الكلمة تعتبر كلمه ايجابية ومحايدة. ونحن، كأفراد وكجمعيات مثليّة وجمعيات تعنى بحقوق انسان وحقوق اقليات وحقوق مرأة، علينا واجب مرافعة هذه الكلمة وادخالها أكثر الى الحيز العام للاستخدام والأدب، أكاديميا واعلاميا.
وأود أن أشير إلى أن هناك بالفعل تغير ملحوظ على هذا الصعيد، وأنا شخصيا، في الاعلام والاكاديميا والادب الفلسطيني، ألحظ أن هذه الكلمة باتت حاضرة وموجودة بشكل جيّد نسبيا. ولكن للأسف، ما زلنا نشهد استخدام كلمة “شذوذ جنسي” و”انحراف” عند الحديث عن المثلية في الصحافة والتلفزيون والانترنت، ولا بد من تغيير هذا الواقع. حتى في الكتابات التي تعد اليوم راديكالية مثل قصة ”انا هي انت”، “الواد والعم”، “عمارة يعقوبيان”، “مسك الغزال”، “الآخرون”، ما زال هناك حضور قوي جدا لهذه المفردات. لكن على الضفة الأخرى، هناك أماكن تعتمد تعبير “شواذ” و”انحراف” فقط، وأماكن أخرى تعتمد كلمة “شواذ” مع كلمة “مثلية جنسية”، وأماكن اخرى – وان كانت قليلة جدا - تعتمد فقط تعبير “مثلية جنسية”، ومن الواضح من خلال التعبير المختار، موقف الجهة المؤلفة من موضوع المثلية الجنسية.
مثلا، عن كتاب “الواد والعم” ، تقول جريدة الوطن السعودية:
قصة ”الواد والعم” تحكي قصصاً واقعية من اليأس والغضب التي يمر بها أبطال الرواية على مسرح الواقع. يسعى الكاتب ببراعة لإظهار الانحراف الفكري الشاذ لدى فئات معينة في المجتمع.
وفي رواية عمارة يعقوبيان يصف علاء الاسواني “حاتم”، الشخصية المثليّة في الرواي، ”انه من الشواذ المحافظين. و كان الشذوذ في حياة حاتم هامشيا محددا بإحكام. ولم يكن مجرد مخنث. بل هو شخص موهوب. وصل بكفاءته وذكائه الی قمة نجاحه المهني.. هو مثقف من أعلی مستويات، يجيد عدة لغات بطلاقة. يريد ان يضيق حياته الشاذة و يقتصرها علی الليالي و يعيش يومه العادي كصحفي و مسئول قيادي وفي الليل يمارس لذته لبضع ساعات في الفراش. ”
وفي وصف كتاب “أنا هي انت”، كتب موقع النيل والفرات: (13)
“أنا هي أنت”، تُبْرز، بكثير من الجرأة والصراحة والعفوية، مسألة تشكل هاجساً مرعباً عند كثيرات تضطرهن الظروف الإجتماعية والنفسية وحتى البيولوجية إلى علاقات مثلية، لا ترضي فيهن موضع الشَبَقُ وحسْب، وإنما عطشهن إلى المستحيل يجسد شذوذهن وسلوكهن في الطريق المرتجى إلى أجسادهن وشهواتهن”.
بعيدا عن هذه المصطلحات المتحيزة، نجد أماكن قليلة استعملت فيها مفردة “مثليّة الجنس” فقط من دون ربطها بشذوذ او انحراف، مثل الفقرة الموجودة في موقع رياض الريس عن كتاب “انا هي انت”. فقد ورد ما يلي:
لم يوجد حتى الآن امرأة عربية بحثت موضوع العلاقات المثلية عند النساء بشكل مباشر. أحياناً كانت تجري معالجة الموضوع بين الذكور أما بالنسبة إلى الإناث فبقي الأمر محظوراً على الدوام ، لأن المرأة الشرقية تعيش في فضاء من المحرمات والممنوعات. هذه الرواية تَصَدّى لموضوع العلاقات المثلية كواحدة من الحقائق التي لم يعد ينبغي السكوت عنها.
من خلال هذا الاستعراض السريع للتاريخ والحاضر العربيين في التعامل مع المثلية الجنسية ومصطلحاتها، من الواضح أن هناك تغيير جيد، لكن ما زال هناك الكثير لنعمل من أجله. وكي نستمر في هذا التغيير، من المهم جدا ان نتذكر ان التوثيق والكتابة باللغة العربية هي الطريقة الأنجع والأقوى للتغيير، والرد على الخطاب النقيض، وتقديم حقائق عادلة ومتحررة من القمع والتغييب الذي استعمل في كل ما يتعلق بالمثليّة الجنسيّة والهويات والميول الجنسيّ.
ولأننا جزء لا يتجزأ من مجتمعنا وحضارتنا التي يربطنا فيها رابط لغوي، اجتماعي، ثقافي، سلوكي، تاريخي ومصيري، سنستمر في العمل من أجل حقوقنا وتحقيق المساواة. ونحن نعلم ونؤمن بأن اللغة العربية قادرة على احتواء الهوية الجنسية والمثليّة الجنسية كما قامت بذلك في الماضي، بالرغم من سياسة االتهميش المتعمدة لتغييبنا.
نحن اليوم نعمل على استرجاع هذه اللغة واستخدامها من جديد وفي بعض الحالات، اعادة خلقها وتشكيلها لتحقق أغراضنا وتحتوي قضايانا.
الكاتبة ريما حوا هي مركزة مشروع المعلومات والمنشورات في مجموعة أصوت – نساء مثليات فلسطينيات
Leave a Reply